فصل: تفسير الآيات (12- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{والسماء ذَاتِ البروج}
هيَ البروج الاثنَا عشر شبهتْ بالقصورِ لأنَّها تنزلُها السياراتُ ويكونُ فيِها الثوابتُ، أو منازلُ القمرِ أو عظامُ الكواكبِ سميتْ بروجاً لظهورِها أو أبوابِ السماء فإنَّ النوازلَ تخرجُ منها، وأصلُ التركيبِ للظهورِ {واليوم الموعود} أي يوم القيامةِ {وشاهد ومشهود} أيْ ومَنْ يشهدُ في ذلكَ اليوم من الخلائقِ وما يحضرُ فيهِ من العجائبُ، وتنكيرُهُمَا للإبهامِ في الوصفِ أي وشاهدٍ ومشهود لا يُكتنهُ وصفُهُمَا أو للمبالغةِ في الكثرةِ وقيلَ: الشاهدُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم والمشهود يوم القيامةِ، وقيلَ: عيسَى عليه السلام وأمتهُ لقوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شهيداً} الخ، وقيلَ: أمةُ محمدٍ وسائرُ الأممِ، وقيلَ: يوم الترويةِ ويوم عرفةٍ، وقيلَ: يوم عرفةَ ويوم الجمعةِ، وقيلَ: الحجر الأسودُ والحجيجُ، وقيلَ: الأيامُ والليالي وبنُو آدمَ.
وعن الحسنِ مَا منْ يوم إلا ويُنادي إني يوم جديدٌ وإنِّي على ما يعملُ فيَّ شهيد فاغتنمني فَلَوْ غَابَتْ شَمْسِي لَمْ تُدركِني إلى يوم القيامةِ.
وقيل: الحفظةُ وبنُو آدمَ، وقيلَ: الأنبياءُ ومحمدُ عليهم الصلاةُ السلامُ {قتل أصحاب الأخدود} قيلَ: هوَ جوابُ القسمِ على حذفِ اللامِ منهُ للطولِ، والأصلُ لقتل كَمَا في قول مَنْ قال:
حَلَفتُ لَها بالله حِلْفَةَ فَاجِر ** لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حديث وَلاَ صَالِ

وقيلَ: تقديرُهُ لَقدْ قتل وأياً ما كانَ فالجملة خبريةٌ والأظهرُ أنَّها دعائيةٌ دالةٌ على الجوابِ كأنَّها قيلَ: أقسمُ بهذهِ الأشياءِ أنهمْ أيْ كفارَ مكةَ ملعونونَ كما لعنَ أصحابُ الأخدود لما أنَّ السورةَ وردتْ لتثبيتِ المؤمنينِ على ما هُمْ عليه من الإيمان وتصبيرِهم على أذية الكفرةِ وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهُم من التعذيبِ على الإيمان وصبرُهُم على ذلكَ حَتَّى يأنسوا بِهمْ ويصبُروا على ما كانُوا يلقونَ من قومِهم ويعلُموا أنَّ هؤلاءِ عندَ الله عزَّ وجلَّ بمنزلةِ أولئكِ المُعذِّبينِ ملعونونَ مثلُهم أحقاءُ بأنْ يقال فيهمْ ما قَدْ قيلَ فيهمْ وقرئ {قتل} بالتشديدِ و{الأخدود} الخَدُّ في الأرضِ وهو الشقُّ ونحوهِما بناء ومعنى الحق والأحقوق.
روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنه كانَ لبعضِ الملوكِ ساحرٌ فلما كبرَ ضَمَّ إليهِ غلاماً ليعلِّمهُ السحرَ وكانَ في طريقِ الغلامِ راهبٌ فسمعَ منْهُ فرأى في طريقهِ ذاتَ يوم دابةً قدْ حبستِ النَّاسَ.
قيل: كانتِ الدابةُ أسداً فأخذَ حجراً فقال: اللهمّ إنْ كانَ الراهبُ أحبَّ إليكَ منَ الساحرِ فاقتلهَا فكانَ الغلامُ بعدَ ذلكَ يبرئُ الأكمه والأبرصَ ويَشفيَ من الأدواءِ وعمي جليسٌ للمكِ فأبرأَهُ فأبصرَهُ الملكُ فسألهُ منْ ردَّ عليكَ بصركَ؟ فقال: ربِّي فغضبَ فعذَّبه فدلَّ على الغلامِ فعذَّبه فدلَّ على الراهبِ فلم يرجعِ الراهبُ عن دينِه فقدَّ بالمنشارِ وأبى الغلامُ فذهبَ بهِ إلى جبلٍ ليطرحَ من ذروته فدعا فرجفَ بالقومِ فطاحُوا ونجَا فذهبَ به إلى قُرْقُورٍ فلججُوا بِه ليغرقُوه فدعا فانكفأتْ بهم السفينةُ فغرقُوا ونجَا فقال للملكِ: لستَ بقاتِلي حَتَّى تجمعَ النَّاسَ في صعيدٍ وتصلبني على جذْعٍ وتأخذَ سَهْماً من كنانتي وتقول باسمِ الله ربِّ الغُلامِ ثمَّ ترميني بهِ فرماهُ فوقعَ في صُدغِه فوضَعَ يَدَهُ عليهِ وماتَ فقال النَّاسُ: آمنَّا بربِّ الغلامِ قيلَ للمكِ: نزلَ بكَ ما كنتَ تحذرُ فأمرَ بأخاديدَ في أفواهِ السككِ وأوقدتْ فيها النيرانُ فمنْ لَمْ يرجعْ منهمْ طرحَهُ فيها حتَّى جاءت امرأةٌ معها صبيٌّ فتقاعستْ فقال الصبيُّ: يا أماهُ اصبري فإنَّكِ على الحق فاقتحمتْ. وقيلَ: قال لها: قعي ولا تنافقي ما هي إلا غميضةٌ فصبرتْ»
. قيلَ: أُخرجَ الغلامُ منْ قبرهِ في خلافةِ عمر بْنِ الخطابِ رضيَ الله عنهُ وأصبعُهُ على صُدْغِه كَما وضعها حينَ قتل، وعن علي رضيَ الله عنهُ: أنَّ بعضَ ملوكِ المجوسِ وقعَ على أختهِ وهو سكرانُ فلما صحا ندمَ وطلبَ المخرجَ فقالتْ لَهُ: المخرجُ أن تخطبَ بالنَّاسِ فتقول: إنَّ الله قدْ أحلَّ نكاحَ الأخواتِ ثمَّ تخطبُهم بعدَ ذلكَ أنَّ الله قد حرَمَهُ فخطبَ فلم يقبلُوا مِنْهُ، فقالتْ لَهُ: ابسطْ فيهمْ السوطَ ففعلَ فلم يقبلُوا، فقالتْ: ابسطْ فيهم السيفَ ففعلَ فلم يقبلُوا، فأمرَ بالأخاديدِ وإيقادِ النارِ وطرحَ منْ أَبَى فيها فهمْ الذينَ أرادهُم الله تعالى بقوله: {قتل أصحاب الأخدود}.
وقيل: وقعَ إلى نجرانَ رجلٌ ممنْ كانَ على دينِ عيسى عليه السلام فدعاهُم فأجابوُه فسارَ إليهم ذُو نواسٍ اليهوديُّ بجنودٍ من حِمْيرٍ فخيرهُمْ بينَ النارِ واليهوديةِ فأبوَا فأحرقَ منهمْ اثني عشر ألفاً في الأخاديدِ وقيلَ: سبعين ألفاً وذكرَ أنَّ طولَ الأخدود أربعونَ ذراعاً وعرضَهُ اثنا عشر ذِراعاً.
{النَّارِ ذَاتِ الوقود (5) إِذْ هُمْ عليها قعود (6)}
{النار} بدلُ اشتمالٍ من {الأخدود} {ذَاتِ الوقود} وصفٌ لها بغايةِ العظمِ وارتفاعِ اللهبِ وكثرةِ ما يوجبُهُ منَ الحطبِ وأبدانِ الناسِ وقرئ {الوقود} بالضمِّ وقوله تعالى: {إِذْ هُمْ عليها قعود} ظرفٌ لقتل أي لعنُوا حينَ أحدقُوا بالنَّارِ قاعدينَ حولَها في مكانٍ مشرفٍ عليها من حافاتِ الأخدود كما في قوله:
وَبَاتَ على النَّارِ النَّدَى وَالمُحَلَّقُ

{وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شهود} أيْ يشهدُ بعضُهم لبعضٍ عندَ الملكِ بأنَّ أحدا لمْ يقصرْ فيما أُمِرَ بهِ أوْ أنهم شهود يشهدونَ بما فعلُوا بالمؤمنينَ يوم القيامةِ يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم وأيديهُمْ.
وقيل: على بمعنَى معَ والمعْنَى وهُم معَ مَا يفعلونَ بالمؤمنينَ منَ العذاب حضورٌ لاَ يرقُّونَ لهم لغايةِ قسوةِ قُلُوبِهمْ هَذَا هُو الذي يستدعيه النظمُ الكريمُ وتنطقُ بِه الرواياتُ المشهورةُ وَقْد رُويَ أنَّ الجبابرةَ لما ألقوا المؤمنينَ في النَّارِ وهم قعود حولَها علقت بهمْ النَّارُ فأحرقتُهمْ ونجَّى الله عزَّ وجلَّ المؤمنينَ منها سالمينَ وإلى هَذَا القول ذهَبَ الربيعُ بنُ أنس والوأحديُّ وعلى ذَلكَ حَمَلا قوله تعالى: {ولهم عذاب الحريق} {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ} أيْ ما أنكرُوا منهم وما عابُوا {إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد} استثناءٌ مفصحٌ عن براءتِهم عَمَّا يعاب وينكرُ بالكليةِ على منهاجِ قوله:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ ضيوفَهُم ** تُلامُ بنسيانِ الأحبَّةِ والوطن

ووَصفُهُ تعالى بكونِه عزيزاً غالباً يخشى عقابُه وحميداً منعماً يُرجَى ثوابُه وتأكيدُ ذلكَ بقوله تعالى: {الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} للإشعارِ بمناطِ إيمانهِم وقوله تعالى: {والله على كُلّ شيء شهيد} وعدٌ لهم ووعيدٌ شديدٌ لمعذبيهمْ فإنَّ علمَهُ تعالى بجميعِ الأشياءِ التي من جُمْلتِها أعمالُ الفريقينِ يستدعي توفيرَ جزاءِ كُلِّ منهمَا حَتْماً {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} أي محنوهُم في دينهم ليرجعُوا عَنْهُ والمرادُ بهمْ إمَّا أصحابُ الأخدود خاصَّةُ وبالمفتونينِ المطروحونَ في الأخدود وإما الذينَ بلوهم في ذلكَ بالأذيةِ والتعذيبِ على الإطلاقِ وهم داخلونَ في جملتِهم دخولاً أولياً.
{ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} أي عن كفرِهم وفتنتهم فإن ما ذكرَ من الفتنةِ في الدينِ لا يتصورُ من غيرِ الكافرِ فطعاً وقوله تعالى: {فَلَهُمْ عذاب جَهَنَّمَ} جملة وقعتْ خبراً لأنَّ أوْ الخبر {لَهُم} و{عذاب} مرتفعٌ بهِ على الفاعلية وهو الأحسنُ والفاءُ لتضمنَ المبتدأَ معنى الشرطِ ولا ضيرَ في نسخِه بأنَّ وإنْ خالفَ الأخفشُ والمَعنى لهُم في الآخرةِ وعذاب جهنَم بسببِ كفرِهم {وَلَهُمْ عذاب الحريق} وهي نارٌ أُخرى عظيمةٌ بسببِ فتنتِهم للمؤمنينَ {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} على الإطلاقِ منَ المفتونينَ وغيرِهم {لَهُمْ} بسببِ ما ذكرَ من الإيمان والعملِ الصَّالحِ {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} إنْ أريدَ بالجناتِ الأشجارَ فجريانُ الأنهارِ من تحتِها ظاهر وإن أريدَ بها الأرضَ المشتملةَ عليها فالتحتيةِ باعتبارِ جزئِها الظاهرِ فإن أشجارَها ساترةٌ لساحتِها كما يعربُ عنْهُ اسمُ الجنةِ وقد مرَّ بيانُه مراراً {ذلك} إشارةٌ إمَّا إلى الجناتِ الموصوفةِ والتذكيرُ لتأويلِها بما ذكرَ للإشعارِ بأنَّ مدارَ الحكمِ عنوانُهَا الذي يتنافس فيه المتنافسون فإنَّ اسمَ الإشارةِ متعرضٌ لذاتِ المشارِ إليهِ منْ حيثُ اتصافُهُ بأوصافِه المذكورةِ لا لذاتِه فقطْ كما هُوَ شأنُ الضمير فإذا أشيرَ إلى الجناتِ منْ حيثُ ذكرُهَا فقدِ اعتبرَ مَعَها عنوانُها المذكورُ حتماً وإما إلى ما يفيدُه قوله تعالى: {لهم جناتٌ...} إلخ من حيازتِهم لَها فإنَّ حصولَها لهُم مستلزمٌ لحيازتِهم لها قَطْعاً وأياً ما كانَ فما فيهِ منْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه وبعدِ منزلتِه في الفضلِ والشرفِ ومحله الرفعُ على الابتداءِ حبرُهُ ما بعدُه أي ذلكَ المذكورُ العظيمُ الشأنِ {الفوز الكبير} الذي يصغُرُ عندَهُ الدنيا وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ الرغائبِ يحذافيرِها والفوزُ النجاةُ منَ الشرِّ والظفرُ بالخيرِ فعلى الأولِ هو مصدرٌ أطلقَ على المفعولِ مبالغةً وعلى الثانِي مصدرٌ على حالِه. اهـ.

.تفسير الآيات (12- 22):

قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويعيد (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الودود (14) ذُو العرش المجيد (15) فَعَّالٌ لما يريد (16) هَلْ أَتَاكَ حديث الجنود (17) فِرْعَوْنَ وثمود (18) بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في تكذيب (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ محيط (20) بَلْ هُوَ قرآن مجيد (21) فِي لَوْحٍ محفوظ (22)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان لا يثيب ويعذب على هذا الوجه إلا من كان في غاية العظمة، قال معللاً لفعله ذلك دالاً بذلك التعلل على ما له من العظمة التي تتقاصر الأفكار دون عليائها، مؤكداً لما للأعداء من الإنكار: {إن بطش ربك} أي أخذ المحسن إليك المدبر لأمرك أعداء الدين بالعنف والسطوة وغاية الشدة {لشديد} أي شدة يزيد عنفها على ما في البطش من العنف المشورط في تسميته، فهو عنف مضاعف.
ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة، دل على كمال قدرته واختصاصه بذلك بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار: {إنه} وزاد التأكيد بمبتدأ آخر ليدل على الاختصاص فقال: {هو} أي وحده {يبدئ} أي يوجد ابتداء أي خلق أراد على أي هيئة أراد {ويعيد} أي ذلك المخلوق بعد إفنائه في أي وقت أراده، وغيره لا يقدر على شيء من ذلك، وليس هذا الضمير بفصل لأنه لا يكون إلا والخبر لا يكون إلا معرفة، أو شبيه بها في أنه لا يلحقه (أل) المعرفة مثل خير منك، وأجاز المازني وقوعه قبل المضارع لمشابهته الاسم وامتناع دخول (أل) عليه فأشبه المعرفة، وقال: ولا يكون قبل الماضي لأن الماضي لا يشبه الاسم، قال الرضي: وما قاله دعوى بلا حجة ومثل {ومكر أولئك هو يبور} ليس بنص في كونه فصلاً لجواز كونه مبتدأ بما بعده خبره، ونقض قوله في الماضي بقوله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} [النجم: 43].
ولما ذكر سبحانه بطشه، وكان القادر على العنف قد لا يقدر على اللطف، وإن قدر فربما لم يقدر على الإبلاغ في ذلك، وكان لا يقدر على محو الذنوب أعيانها وآثارها على كل أحد بحيث لا يحصل لصاحبها عقاب ولا عتاب من أحد أصلاً إلا من كان قادراً على كل شيء، قال مبيناً لجميع ذلك دليلاً على أنه الفاعل المختار، ومؤكداً لخروجه عن العوائد: {وهو} أي وحده {الغفور} أي المحاء لأعيان الذنوب وآثارها إذا أراد بحيث لا يحصل لمن محا ذنبه كدر من جهة ذلك الذنب أصلاً {الودود} أي الذي يفعل بمن أراد فعل المحب الكثير المحبة فيجيبه إلى ما شاء ويلقي على صاحب الذنب الذي محاه عنه وداً أي محبة كبيرة واسعة ويجعل له في قلوب الخلق رحمة، ومادة (ود) تدور على الاتساع كما بينته في سورة الروم، وزاد الأمر تأكيداً بذكر ما لا ينازع أصلاً في اختصاصه به تشريفاً له وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات: {ذو العرش} أي العز الأعظم أو السرير الدال على اختصاصه الملك بالملك وانفراده بالتدبير والسيادة والسياسة، الذي به قوام الأمور {المجيد} أي الشريف الكريم العظيم في ذاته وصفاته الحسن الجميل الرفيع العالي الكثير العطاء- هذا إذا رفع على أنه صفة لـ: {ذو} وكذا إن جر على أنه صفة للعرش في قراءة حمزة والكسائي.
ولما كان الاختصاص يدل قطعاً على كمال القدرة، أنتج ذكر هذه الاختصاصات قوله: {فعّال} أي على سبيل التكرار والمبالغة {لما يريد} لا يؤده شيء من الأفعال سواء كانت منسوبة إليه من غير واسطة أو نسبت في الظاهر إلى غيره.
ولما تمت الدلالة على أن بطشه شديد، قرره بما وجد من ذلك وذكره به تخويفاً وتسلية له لأن النظر في المحسوسات أمكن في النفوس فقال: {هل أتاك} أي يا أعظم خلقنا {حديث الجنود} أي اذكر ما أتاك مما حدث لهم من بطشنا وما وقع بهم من سطواتنا لتكذيبهم رسلنا عليهم أفضل الصلاة والسلام بحيث صار حديثاً يتلى، وذكراً بين الخلق لعظمته لا يبلى، والجنود جمع جند بالضم وهو العسكر المعد للقتال والأعوان والمدينة، والكل ناظر إلى النجدة العظيمة والغلبة الزائدة.
ولما كان المعلوم من السياق أن المراد من حديثهم ما حصل لهم من البطش لتكذيب الرسل لاسيما في البعث الذي السياق له، وكان الواقع من بيانه بآيات موسى وصالح عليهما الصلاة والسلام أبين مما وقع بآيات غيرهم ممن تقدم زمنه على هذه الأزمنة، وكانت أمة كل نبي من النبيين وأتباع فرعون تحوي أصنافاً من الخلق كثيرة، حكي أن طليعته يوم تبع بني إسرائيل وغرق كانت ستمائة ألف، أبدل من {الجنود} إعلاماً بأنهم أعداء الله قوله: {فرعون} وكذا أتباعه الذين كانوا أشد أهل زمانهم وأعتاهم وأكثرهم رعونة في دعوى الإلهية منه والتصديق منهم وكان هذا من عماوة قلوبهم مع ظهور علامات الربوبية السماوية والأرضية، والرسوخ في التكذيب والسفه والخفة والطيش مع رؤية تلك الآيات العظيمة على كثرتها وطول زمنها حتى دخل البحر على أمان من الغرق مع أن خطر الغرق به في تلك الحالة لم يكن يخفى على من له أدنى مسكة من عقله فأغرقه الله ومن معه أجمعين ولم يبق منهم أحدا، فلعنة الله عليه وعلى من كان معه من أتباعه وأتباعهم الطائفة الاتحادية العربية الفارضية الذين يكفي في ظهور كفرهم تصويبهم فرعون الذي أجمع على كفره جميع الفرق {وثمود} الذين حملتهم الخفة على أن عقروا الناقة بعد رؤيتهم إياها تتكون من الصخرة الصماء غير مجوزين أن الذي خرق العادة بإخراجها ذلك يهلكهم في شأنها، وقد جمع سبحانه بهما بين العرب والعجم والإهلاك بالماء الذي هو حياة كل شيء والصيحة التي هي أمارة الساعة، وإنما كانت آياتهما أبين لأن آية ثمود ناقة خرجت من صخرة صماء، ومن آيات موسى عليه الصلاة والسلام إبداع القمل الذي لا يحصى كثرة من الكثبان، وإبداع الضفادع كذلك والجراد وإحياء العصا مرة أخرى، ولا شك عند عاقل أن من قدر على ذلك ابتداء من شيء لا أصل في الحياة فهو على إعادة ما كان قبل ذلك حيا أشد قدرة.
ولما كان التقدير: نعم قد أتاني ذلك وعلمت من خبرهما وغيره أنك قادر على ما تريد، ولكن الكفار لا يصدقونني، عطف عليه قوله: {بل الذين كفروا} أي جاهروا بالكفر من هؤلاء القوم وغيرهم وإن كانوا في أدنى رتبة {في تكذيب} أي لما رأوا من الآيات لا مستند لهم فيه وهو شديد محيط بهم لاتباعهم أهواءهم وتقليدهم آباءهم، فهم لا يقدرون على الخروج من ذلك التكذيب الذي صار ظرفاً لهم بعد سماعهم لأخبار هؤلاء المهلكين ورؤية بعض آثارهم، وبعد ما أقمت لهم من الأدلة على البعث في هذا القرآن المعجز، ولم يعتبروا بشيء من ذلك لما عندهم من داء الحسد، فحالهم أعجب من حالهم فحذرهم مثل مآلهم.
ولما كان هذا ربما أوهم أن تكذيبهم على غير مراده سبحانه وتعالى، قال دافعاً لذلك مؤكداً قدرته على أخذهم تحذيراً لهم وتسلية لمن كذبوه: {والله} أي والحال أن الملك الذي اختص بالجلال والإكرام {من ورائهم} أي من كل جهة يوارونها أو تواريهم، وذلك كل جهة {محيط} فهو محيط بهم من كل جهة بعلمه وقدرته، فهو كناية عن أنهم في قبضته لا يفوتونه بوجه كما أنه لا يفوت من صار في القبضة بإحاطة العدو به من غير مانع، فهو سبحانه قادر على أن يحل بهم ما أحل بأولئك، ولعله خص الوراء لأن الإنسان يحمي ما وراءه ولأنه جهة الفرار من المصائب.
ولما كان من تكذيبهم، وهو أعظم تكذيبهم، طعنهم في أعظم آيات القرآن بأن يقولوا: هو كذب مختلق، إنما هو أساطير الأولين، أي أكذوباتهم لا حقائق لما يخبر به مع أنه قد أقام الدليل الأعظم لنفسه بنفسه بما له من الإعجاز على أنه حق، قال معبراً بالضمير إيذاناً بأنه لعظمه في كل قلب لا غيبة له أصلاً، ليس لأحد حديث إلا فيه، بانيا علي ما تقديره: ليس الأمر كما يزعم الكفار في القرآن: {بل هو} أي هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {قرآن} أي جامع لكل منقبة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف {مجيد} أي شريف كريم ليس فيه شيء من شوائب الذم عزيز عظيم شريف عال جواد حسن الخلال وحيد في نظمه ومعانيه المغيبة والمشاهدة حاو لمجامع الحمد ليس بقول مخلوق ولا هو مخلوق بل هو صفة الخالق بل هو جواد بكل ما يراد منه من المحاسن لمن صدقت نيته وطهرت طويته، وعلت همته وكرمت سجيته، فهو يأبي له مجده أن يلم بساحته طعن بوجه من الوجوه، ومجده تجريب أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم بعالم ما شهد، فكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه وأشكاله، فكذب من قال إنه شعر أو كهانة أو سحر- أو غير ذلك من الأباطيل.
ولما وصفه في نفسه مما يأبي له لحاق شيء من شبهة، وصف محله في الملأ الأعلى إعلاماً بأنه لا يطرأ عليه ما يغيره فقال: {في لوح} وهو كل صفيحة عريضة من خشب أو عظم أو غيرهما {محفوظ} أي له الحفظ دائماً على أتم الوجوه من كل خلل ومن أن يصل إليه إلا الملائكة الكرام، قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الموت من الأحياء: يعبر عنه تارة بالـ: {لوح}، وتارة بـ: {الكتاب} المبين، وتارة بـ: {إمام مبين}، فجمع ما جرى في العالم وما سيجري مكتوب فيه كتباً لا يشاهد بهذه العين، وليس مما نعهده من الألواح، فلوحه تعالى لا يشبه ألواح خلقه كما أن ذاته تعالى لا تشبه ذوات خلقه، ومثاله مثال قلب الإنسان في حفظ القرآن مثلاً كلماته وحروفه، ولو فتش قلبه لم يوجد فيه شيء ولا ينظر ذلك إلا نبي أو ولي يقرب من درجته- هذا معنى كلام الإمام رحمه الله تعالى.
وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن فحفظه من التغيير والتبديل والتحريف وكل شبهة وريب في نظمه أو معناه كما أن البروج محفوظة في لوح السماء المحفوظ، بل القرآن بذلك أولى لأنه صفة الخالق في بيان وصفه لما خلق على الوجه الأتم الأعدل لأنه ترجمة ما أوجده الله سبحانه في الوجود، فصح قطعاً أنه لابد أن يصدق في كل ما أخبر به، ومن أعظمه أنه سبحانه يحشر الناس للدينونة بالثواب والعقاب كما دان من كذب أولياءه في الدنيا بمثل ذلك فأخذ أعداءه وأنجى أولياءه، فرجع الختام منها على المبتدأ، وتعانق الافتتاح بالمنتهى، فاقتضى ذلك تنزيه المتكلم به عن أن يترك شيئاً فضلاً عن الأنفس بغير حفظ وعن كل ما لا يليق، وإثبات الكمالات له والأكمليات بكل طريق.
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وإليه المهرب والمتاب. اهـ.